فصل: كتاب الأطعمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.كتاب الأطعمة:

الأصل في الطعام والشراب واللباس، الحل.
فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله لأنها داخلة في عموم العادات المبنية على الحل، والمحرم منها معدود مما يدل على بقاء المتروك على أصله وهو العفو.
الحديث الأول:
عَنِ النُعْمَانِ بْنِ بَشِير رضي الله عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُول- وَأشارَ (وفي رواية- وأهوى) النُّعْمَانُ بإصبعيه إلَى أذنيه:- «إنَّ الْحَلالَ بيِّن، وإنَّ الْحَرَامَ بَيِّن. وبينهما أمور مُشْتَبهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ الناس. فَمَنِ اتَقى الشبهات استبرأ لِدِينهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشبهَاتِ وَقَعَ في الْحَرام، كَالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ. ألا وَإنً لِكلٌ مَلِكٍ حِمىً، ألا وإن حِمَى الله مَحَارِمُهِ. ألا وَإنَّ في الجسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُه ألا وَهِي القلب».
الغريب:
مُشْتبهات: بضم الميم وسكون الشين.
استبرأ: بكسر الهمزة- من البراءة، أي حصل له البراءة من الذم الشرعي، وصان عرضه عن ذم الناس.
الحمى: بكسر الحاء وفتح الميم المخففة مقصور، أطلق المصدر على اسم المفعول.
يوشك: بضم الياء وكسر الشين، بمعنى: يسرع ويقرب.
يرتع: رتعت الماشية، أكلت وشربت ما شاءت في خصب وسعة. توسع به، فأطلق على المتدرج من المشتبه إلى المحرم.
مضغة: بضم الميم وسكون الضاد المعجمة، بعدها غين معجمة، بعدها تاء، هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الماضغ، والمضغ: العلك.
المعنى الإجمالي:
سمع النعمان بن بشي رضي الله عنهما النبي صلى الله عليه وسلم يقول وأكد سماعه منه بإشارته إلى أذنيه: إن الحلال بين حكمه، واضح أمه، لا يخفى حِلهُ، وذلك كالخبز، والفواكه، والعسل، واللبن، وغير ذلك من المأكولات، والمشروبات، والملابس، وغير ذلك من الكلام، والمعاملات، والتصرفات.
وأن الحرام بين حكمه، واضح تحريمه، من أكل الخنزير، وشرب الخمر، ولبس الحرير والذهب للرجل، والزنا، والغيبة، والنميمة، والحقد، والحسد وغر ذلك.
فهذان القسمان بينا الحكم، لما ورد فيهما من النصوص الواضحة القاطعة، وإن هناك قسما ثالثا مشتبه الحكم، غير واضح الحل أو الحرمة، وهذا الاشتباه راجع إِلى أمور.
منها: تعارض الأدلة، بحيث لا يظهر الجمع لا الترجيح بينها، فهذا مشتبه في حق المجتهد الذي يطلب الأحكام من أدلتها.
فمن انبهم عليه الحكم الراجح، فهو في حقه مشتبه، فالورع اتقاء الشبهة ومنها تعارض أقوال العلماء وتضاربها، وهذا في حق المقلد الذي لا ينظر في الأدلة.
فالورع في حق هذا، اتقاء المشتبه.
ومنها: ما جاء في النهى عنها حديث ضعيف، يوقع الشك في مدلوله.
ومنها: المكروهات جميعها، فهي رقية (أي: سُلَّم يوصل) إلى فعل المحرمات والإقدام عليها.
فإن النفس إذا عصمت عن المكروه، هابت الإقدام عليه ورأته معصية فيكون حاجزا منيعا عن المحرمات.
ومنها: المباح الذي يخشى أن يكون ذريعة إلى المحرم، أو يجر- في بعض الأحول- إلى المحرم، ومثله الإفراط في المباحات فتسبب مجاوزته إلى الحرام، إما عند فقده، أو للإفراط فيما هو فيه.
وقد كان السلف رضي الله عنهم، يتركون المباحات اليسيرة، خوفاً من المكروه والحرام.
ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثلا للمحرمات، بالحمى الذي يتخذه الخلفاء والملوك مرعى لدوابهم.
ومثَّل المُلمَّ بالمشتبهات، بالراعي الذي يسيم ماشيته حول الحمى، فيوشك ويقرب أن ترعى ماشيته فيه، لقربه منه، كذلك الملم في المشتبهات، يوشك أن يقع في المحرمات، وهو تصوير بديع، ومثال قريب.
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أن في الجسد لحمة صغيرة لطيفة، بقدر ما يمضغ، وأن هذه القطعة من اللحم، هي القلب، وأن هذا القلب، هو السلطان المدبر لمملكة الأعضاء وما تأتي من أعمال، كما أن عليه مدار فسادها وما تجره من شر.
فإن صلح هذا القلب، فإنه لن يأمر إلا بما فيه الخير وسيصلح الجسد كله.
وإن فسد، فسيأمر بالفساد والشر، وتكون الأعمال معكوسة منكوسة والله ولى التوفيق.
وبالجملة، فهذا حديث عظيم جليل، وقاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول الشريعة، عليه لوائح أنوار النبوة ساطعة، ومشكاة الرسالة مضيئة، فهو من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم.
ويحتاج استيفاء الكلام عليه إلى مصنف مستقل طويل.
وهذه نبذة تفتح الباب أمام طالب العلم، ليراجع ويتدبر، ويفكر، وسيجد فيه من كنوز المعرفة، الخير الوفير.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
فوائد:
قال القحطاني: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه، والذي شككت فيه هو محل الريبة، فإن الريبة الشك والتردد، وحديث: «دع ما يريبك» أفاد أنك إذا شككت في شيء فدعه، واترك ما تشك فيه.
قال الغزالي: الورع أقسام: ورع الصديقين: وهو ترك ما يتناول لغير نية القوة على العبادة. وورع المتقين: وهو ترك مالا شبهة فيه، ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام. وورع الصالحين: وهو ترك مالا يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع فإن لم يكن له موقع فهو ورع الموسوسين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: الفرق بين الزهد والورع أن الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخاف ضرره في الآخرة. قال ابن القيم: إن هذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها. وقال أيضاً: التحقيق أنها (أي النعم) وإن شغلته عن اللّه تعالى فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله بل كان شاكراً فيها فحاله أفضل، والزهد فيهِا تجريد القلب عن التعلق بها والطمأنينة إليها.
قال الصنعاني: واعلم أنه يجمع الورع كله قوله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» والحديث يعم الترك لما لا يعنى من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي وسائر الحركات الباطنة والظاهرة فهذه الحكمة النبوية شافية، في الورع كافية.
الحديث الثاني:
عَنْ انس بن مَالِكٍ رضيَ الله عَنْة قَالَ: أنفَجْنَا أرنباً بمر الظَّهران فَسَعَى القَوْمُ فَلغَبُوا، وَأدركتُهَا فَأخَذْتُهَا، فَأتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا أو فَخِذِهَا فَقَبِلَهُ.
الغريب:
أنفجنا أرنباً: بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء، وسكون الجيم، أي أثرناها.
بمر الظهران: بفتح الميم والظاء المعجمة، موضع شمال مكة، على طريق المدينة حين كان السفر على الدواب، ويبعد عن مكة بنحو 2 كيلو، ويسمى الآن (وادي فاطمة).
فلغبوا: قال الزركشي: بفتح الغين المعجمة، وفي لغة ضعيفة كسرها، حكاه ابن سيده، والجوهري، ومعناه: أعيوا، والمصدر: اللغوب، بضم اللام.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه حل الأرنب، وأنها من الطيبات، وعلى حلها أجمعت الأمة.
2- قبول النبي صلى الله عليه وسلم للهدية، قليلة كانت أو كثيرة.
3- أن التهادي من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، لما فيه من التوادد والتواصل. فينبغي أن يشيع هذا بين المؤمنين، خصوصا الأقارب والجيران.
الحديث الثالث:
عَنْ أسْماء بنْتِ آبي بَكر رضي الله عَنْهُمَا قالت: نَحَرنا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَرَساً فأكلناه.
وفي رواية: وَنَحْنُ في المَدِينَةِ.
ما يستفاد من الحديث:
1- الحديث دليل على حل أكل لحوم الخيل، إذ أكل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأقر عليه.
وقد جاء الحديث في الصحيحين وغيرهما بلفظ ذبحنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه، نحن وأهل بيتهط ويأتي ذكر من خالف في حِله.
2- جاء في بعض الألفاظ الذبح وفي بعضها النحر والنحر: هو الضرب بالحديدة في اللبة حتى يفرى أوداجها وهو الإبل. والذبح- هو قطع الأوداج، وهو لغير الإبل من الحيوانات، ولعله حمل النحر على الذبح توسعا ومجازا.
3- قولها. ونحن في المدينة يرد على من قال: إن حلها نسخ بغرض الجهاد، بسبب الاحتياج إليها.
الحديث الرابع:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُ: أنَّ النَبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُوم الْحُمُرِ الأهلية وأذِنَ في لحوم الخيل.
ولـ مسلم وحده قال: أكَلْنَا زَمَنَ خيبر الخيل وَحُمُرَ الْوَحْش، وَنَهَى النَّبي صلى الله عليه وسلم لا عَنِ الْحِمَارِ الأهْلي.
الحديث الخامس:
عَنْ عبد الله بن أبي أوفَي قَال: أصابتنا مَجَاعَةَ ليالي خيبرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيبرَ وقعنا في الحُمُر الأهَلِيَّةِ فَانتحَرناهَا، فلَما غَلَتْ بهَا الْقُدُورُ نادى مُنَادِى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أن أكفئوا القدور- وَربَّمَا قَالَ: وَلا تَأكُلُوا مِنْ لُحُوم الحمر الأهلية شَيْئا.
الحديث السادس:
عَنْ أبي ثَعْلَبَةَ رَضيَ اللّه عَنْهُ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الحمر الأهليةِ.
الغريب:
الحمر الأهلية: بضم الحاء والميم، نسبت إلى الأهل لكونها مستأنسة مع الناس. حمر الوحش. سميت وحشا لكونها متوحشة مبتعدة عن الناس، وهي صيد، وفيه من صفات الحمار الأهلي، إلا أنه أقل منه خلقة ويسمى الآن الوضيحي.
أكفئوا القدور: بهمزة القطع (من أكفأ) الرباعي. وبعضهم رواه بهمزة الوصل من (كفأت) الثلاثي، ومعناه القلب.
ما يستفاد من هذه الأحاديث الثلاثة:
شرحنا هذه الأحاديث جميعا لكونها متفقة المعاني وهي:
1- النهي عن لحوم الحمر الأهلية وتحريم كلها.
قال ابن عبد البر (لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها) وكانت قبل تحريمها والأمر بإراقتها من القدور، باقية على أصل الحل.
2- أن العلة في تحريمها كونها رجساً نجسة مستخبثة، وقد جاء في الحديث: «فإنها رجس» فيكون بولها وروثها ودمها نجساً.
3- حل لحوم الخيل لأنها مستطابة طيبة، ويأتي- إن شاء الله- ذكر من خالف في حلها.
4- حِلُّ الحمر الوحشية، لأنها من الصيد الطيب، وهن الوضيحيات.
اختلاف العلماء:
ذهب أبو حنيفة، ومالك في بعض أقوالهما، إلى تحريم لحوم الخيل، وفِى بعضها الآخر، إلى الكراهة، وذهب بعض أصحابه إلى التحريم وبعضهم إلى الكراهة- واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- قوله تعالى: {والخيل وَالبِغَالَ والحَمِيرَ لتر كَبُوهَا وزينَة}.
ووجه الدلالة من الآية أنها قرنت مع البغال، والحمير، وهى محرمة.
وأيضاً فإن اللام في قوله {لتركبوها} للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوص علها تفيد الحصر، فحل أكلها يقتضي خلاف الظاهر من الآية.
وأيضا فإن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل، لكان الامتنان به أعظم.
2- ما رواه الطحاوي، وابن حزم عن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال).
وما رواه أصحاب السنن عن خالد بن الوليد: (أن الني صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل).
3- ما بين الخيل والحمر من شبه قوي، يوجب إلحاق الخيل بالحمر.
وذهب الشافعي، وأحمد، والليث، وحماد، وأبو ثور، إلى حِلها. وروى عن ابن الزبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والأسود، وابن المبارك.
واحتجوا بالأحاديث والآثار المتواترة بحلها، فهي داحضة لكل حجة، رادة لكل دليل.
واستدلوا بأنه عمل الصحابة جميعاً، فقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط الصحيحين، عن عطاء قال لابن جريح: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريح: قلت: الصحابة؟ فال: نعم.
وأجابوا عن أدلة الحنفية والمالكية بما يأتي:
أما الآية الكريمة فليس فيها دليل، لأنها مكية إجماعا، وهذه الأحاديث مدنية إجماعا، فيكون الإذن بحلها بعد نزول السورة.
وهذه المحاولات في الاستدلال لا تكفى دليلا، لأنا لو سلمنا أن اللام للتعليل فلن نسلم إفادتها للحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل نمو غيرهما اتفاقا، وإنما ذكر في الآية أغلب المنافع.
وأما دلالة العطف والاقتران، فهي ضعيفة لا يحتج بها، خصوصاً وأنها في مقابلة هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
وأما الامتنان، فقد ذكر باعتبار الغالب عند العرب بحبهم لذلك في السرور بالنظر إلى حسنها في غدوها، ورواحها، وركوبها للصيد، الذي هو أكبر اللذات، وعند الغارات، ومجابهة الأعداء في الكر والفر.
ولا يلزم أن تذكر نعم الله تعالى في مقام واحد، فله- تبارك وتعالى- النِّعَم العظيمة، والآلاء الجسيمة، وهي معروفة.
أما قياس الخيل على الحمر، فلا يلتفت إليه مع النص.
وأما الحديث الذي رواه الطحاوى، ففيه عكرمة بن عمار عن يحي ابن أبي كثير.
قال الطحاوى: وأهل الحديث يضعفونه.
قال ابن حجر: لاسيما في يحي بن أبي كثير.
وقال يحي بن سعيد القطان: أحاديثه عن يحي بن أبي كثير، ضعيفة.
وقال البخاري: حديثه عن يحي، مضطرب وكلام أئمة الحديث فيه كثير.
وأما الحديث المنسوب إلى خالد بن الوليد، فقد قال العلماء: إنه شاذ منكر، لأن في سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ، فإنه لم يسلم إلا بعدها.
الحديث السابع:
عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلْتُ أنا وَخَالِدُ بْن الوَلِيدِ مَعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأتي بضب مَحْنُوذٍ، فأهوى إلِيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
فَقَالَ بَعْضُ النسْوةِ اللاتي في بيت مَيْمُونَةَ: أخْبرُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِمِا يُرِيدُ أنْ يأكل. فَقلْتُ: تأكُلُهُ؟ هُوَ ضب!
فَرَفَعَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فَلَمْ يَأكُلْ، فَقُلتُ: يا رسول الله، أحرام هُوَ؟
قال: «لا. وَلكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأرْض قَوْمي، فأجدني أعَافُهُ».
قَالَ خَالِد: فاجتررته فَأكَلْتُهُ وَالنَّبي صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إلَيَّ.
المحنوذ: المشوي بالرضيف (وهي الحجارة المحمَّاة).
الغريب:
بضب: بفتح الضاد وتشديد الباء. هو دابة فيه شبه بالحر بلا. وهو معروف، في الصحراء مسكنه.
محنوذ: بفتح الميم وسكون الحاء وضم النون، وبعدها واو، ثم ذال معجمه هو المشوي بالحجارة المحماة، ولا تزال البادية تفعل هذا.
ويقال له في الحجاز: (مضبي)وهو استعمال فصيح، قال ابن فارس ضبته النار إذا شوته.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على إباحة أكل الضًب من سؤالهم وجوابه: حرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا». ومن تقريره خالد بن الوليد على أكله مع علمه بذلك.
ويفهم من حال أهله أن حِلًه متقرر لديهم، لأنهم طبخوه وقدموه للأكل.
فإنهم لم يخبروه أنه ضب ليسألوا عن حكم أكله، وإنما لإعلامه، فيجتنبه إن كانت نفسه لا تقبله وأجمع العلماء على حِل أكله.
2- وفيه دليل على أن الكراهة الطبيعية من النبي صلى الله عليه وسلم للشيء لا تحرمه لأن هذا شيء ليس له تعلق بالشرع، ومرده النفوس والطباع.
3- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يعب الطعام. وهذه عادته الكريمة، إن طاب له الطعام أكل منه، وإلا تركه من غر عيبه.
4- وفيه أن النفس وما اعتادته، فلا ينبغي إكراهها على أكل ما لم تشتهه ولا تستطيبه، فإن الذي لا ترغبه لا يكون مريئا، فيخل بالصحة.
الحديث الثامن:
عَنْ عَبدِ الله بن أبي أوفَى قَالَ: غَزَوناَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَبعَ غَزَوَاتٍ نأكُلُ الجَرَادَ.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على حِل أكل الجراد. قال النووي رحمه الله تعالى: وهو إجماع.
2- وهو حلال بأي سبب صار موته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان مما فأما الميتتان، فالجراد والسمك، وأما الدمان، فالكبد والطحال».
الحديث التاسع:
عَنْ زَهْدَم بْنِ مُضَرِّبٍ الْجَرْمي قالَ: كُنا عِنْدَ أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ، فَدَعا بِمَائِدَةٍ وَعَلَيها لَحْمُ دجاج، فَدَخَلَ رَجُل مِنْ بَني تَيْم الله أحْمَرُ شبيهٌ بالموالي، فقَالَ لَهُ: هلمَّ! فتلكأ.
فَقَالَ لَهُ: هلمَّ! فَإني رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأكُلُ مِنْهُ.
الغريب:
زهدم بن مضرب الجرمي: بصري ثقة زهدم بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الدال المهملة ومضرب بضم الميم، وفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء المهملة المشددة والجرمي بفتح الجيم وسكون الراء المهملة، منسوب إلى (جَرَم بن زيان)قبيلة مشهورة من العرب من قضاعة، من القحطانية.
تيم الله: بفتح التاء، بعدها ياء، ثم ميم. منسوبة إلى اسم الجلالة، هم بطن من إحدى قبائل العرب.
هلم: بفتح الهاء، بعد لام مضمومة، ثم ميم مشددة. هي كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء. فأما الحجازيون فينادون بها بلفظ واحد، المفرد، والمثنى، والجمع. وبهذه اللغة جاء القرآن {وَالقَائِلِينَ لإخوانهم هَلُم إلَيْنَا} وأما النجديون فيلحقونها الضمائر، فيقولون: هلم، للمفرد، وهلما، للمثنى، هلموا للجمع، وهلمي، للمؤنثة.
فتلكأ: بمعنى تردد وتوقف.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على حل أكل لحم الدجاج لأنه من الطيبات.
2- كون أكثر أكلها النجاسة لا يحرمها، وإنما يكون لها حكم الجلالة.
3- جواز الترف في المأكل والمشرب والملبس، وأن هذا غير مناف للشرع.
ومن تركه- تدينا- فليس على حق {قُلْ مَنْ حَرم زِينَةَ الله التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيباتِ مِنَ الرزْقِ؟}.
ولا ينبغي اتخاذ الترف عادة دائمة، لئلا يألفه، فلا يصبر عنه.
الحديث العاشر:
عنْ ابْنِ عباس رَضي اللّه عَنْهُمَا: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا كَلَ أحدكم طعَامَاً فَلا يمسح يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا».
ما يستفاد هن الحديث:
1- لعق الأصابع، ومثله الإناء، لما فيه من التماس بركة الطعام التي لا يعلم: هل هي في أوله أو آخره؟ وتعظيم نعم الله، قليلها وكثيرها، وعدم التكبر عنها.
2- وفيه صون نِعَمِ الله وحفظها، لئلا تقع في موضع قذر نجس، أو تهان فيه.

.باب الصَّيْد:

الصيد: يطلق على المصدر، أي التصيد. ويطلق: على اسم المفعول وهو المصيد.
قال ابن فارس: وهو ركوب الشيء رأسه ومُضِيُّه، غير ملتفت ولا مائل.
واشتقاق الصيد من هذا، وذلك أن يمر مراً لا يعرج.
وتعريفه شرعاً: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً، غير مملوك ولا مقدور عليه.
والأصل في إباحة الصيد، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {وإذَا حَلَلْتُم فَاصطادوا} وقوله تعالى: {أحِلَّ لَكُم صَيدُ البحر}. وغيرهما من الآيات.
وأما السنة فشهيرة، ومنها الأحاديث الآتية في الباب:
وأجمع العلماء عليه.
وهو من الهوايات المحببة، وكان العرب مولعين به، ويعدونه من اللذات التي يتنافس عليها ملوكهم وأمراؤهم.
ولكن لا ينبغي جعله مَلْهَاةً، لأن طلبه لهذا القصد ضياع لأوقات العمر الثمينة، التي تدرك بها طاعة الله تعالى، وما ينفع الإنسان في حياته، وينفع مجتمعاته.
وإزهاق نفس الحيوان لغير قصد كله أيضاً، لا يجوز، لأنه إتلاف له بلا مسوغ، وقد جعل الله تعالى في بقائه فوائد ومنافع كثيرة.
الحديث الأول:
عَنْ أبى ثَعْلَبَةَ الخُشَنيِّ رضي الله عَنْهُ قَال: أتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يا رسول الله، إنَّا بأرض قَوْم أهْلِ كِتَاب، أفَنَأكُلُ في آنيتهِمْ؟ وَفي أرْضِ صَيْدٍ، أصِيدُ بِقَوسي وبكلبي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وبكلبي الْمُعَلّمِ، فما يَصْلُحْ لي؟.
قَالَ: «أمَّا مَا ذَكَرْتَ- يعني- مِنْ آنية أهْلِ الْكِتَاب فإن وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلا تًأكُلُوا فِيهَا، وَإن لَمْ تَجِدوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْم الله عليه فَكُلْ، وَمَا صدت بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرتَ اسْمَ الله عَلَيْهِ فَكلْ، وما صدت بِكَلْبِكَ غَيْر المعلم فَأدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ».
الغريب:
الخشني: بضم الخاء المعجمة وفتح الشين، بعدها نون ثم ياء، منسوب إلى خشينه بطن من قضاعة قبيلة قحطا نية.
بقوسي: آلة رمي قديمة معروفة، وهي بفتح القاف، وسكون الواو، وكسر السين، بعدها ياء المتكلم.
كلبي المعلم: وهو المدرب على الصيد، وتأتي كيفية تعليمه.
المعنى الإجمالي:
ذكر أبو ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم مبتلون بمجاورة أهل الكتاب- والمراد بهم، اليهود أو النصارى.
فهل يحل لهم أن يأكلوا في أوانيهم مع الظن بنجاستها؟
فأفتاه بجواز الأكل فيها، ومن باب أولى، استعمالها في غير الأكل بشرطين:
1- أن لا يجدوا غيرها.
2- وأن يغسلوها.
وذكر له أنهم بأرض صيد، وأنه يصيد بقوسه وبكلبه المعلم على الصيد وآدابه، وبكلبه الذي لم يتعلم. فما يصلح له ويحل من صيد هذه الآلات.
فأفتاه بأن ما صاده بقوسه فهو حلال، بشرط أن يذكر اسم الله تعالى عند إرسال السهم.
وأما ما تصيده الكلاب، فما كان منها معلماً وذكر اسم الله عند إرساله فهو حلال أيضاً.
وأما الذي لم يتعلم، فلا يحل صيده إلا أن يجده الإنسان حياً ويذكيه الذكاة الشرعية.
ما يستفاد من الحديث:
1- إباحة استعمال أواني الكفار، ومثلها ثيابهم، عند عدم غيرها، وذلك بعد غسلها.
2- هنا تعارض الأصل الذي هو الأصل في الأشياء الطهارة بغلبة الظن، الذي هو- هنا- عدم توقيهم النجاسة فرجح غلبة الظن حيث قويت.
3- إباحة الصيد بالقوس: وبالكلب المعلم بشرط ذكر اسم اللّه عند إرسالهما.، فإن تركها عمدا أو سهوا لم يبح، وإن تركها سهوا أو جهلا أبيح. وهذا هو المشهور. من المذاهب.
والصواب: أنه إن تركها سهوا أو جهلا أبيح. وهو رواية عن الإمام أحمد.
4- ظاهر الحديث حِل أكل ما صيد، سواء أقتله الجارح بجرحه أم بصدمه وهو مذهب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه، ابن حامد، وأبو محمد الجوزي، وهو ظاهر كلام الخرقي لعموم الآية.
أما المشهور من المذهب، فلا يحل إذا مات الصيد بخنقه أو صدمه.
5- أن صيد الكلب الذي لم يعَلم، لا يحل إلا إن أدركه الإنسان فذكاه قبل موته.
6- صفة تعليم الجارح على مذهب الحنابلة، إن كان الجارح كلباً، أو فهداً ونحوهما من ذوات الناب فبثلاثة أشياء:
1- أن يسترسل إذا أرسل.
2- وينزجر إذا زجر.
3- وأن لا يأكل إذا أمسك.
وإن كان ذا مخلب، كالصقر، والبازي، فبشيئين.
1- يسترسل إذا أرسل.
2- وينزجر إذا زجر، ولا يشترط الثالث.
وبعض العلماء جعل مرد التعليم وتحديده إلى العرف، فما عده الناس متعلماً عارفاً لآداب الصيد، فهو المتعلم، ويكون حلال الصيد، ومالا، فلا وهو قول جيد لأن الشارع أطلق تعليمه، وما أطلقه،. فالذي يحده، العرف.
7- فضل العلم على الجهل، إذ أبيح صيد الكلب المعلم دون الكلب الذي لم يعلم فقد آثر العلم حتى في البهائم، قاله (ابن القيم)رحمه الله.
الحديث الثاني:
عَنْ هَمَّام بْنِ الحارِثِ عَنْ عَدِي بْنِ حاتِمٍ قَال: قُلْتُ،ْ يا رَسُولَ الله: إني أرسل الْكلابَ الْمُعَلًمَةَ فيمْسِكْنَ عَلَىَّ وَأذْكرُ اسْمَ الله.
فَقَالَ: «إذَا أرسلتَ كَلْبَكَ المعلم وَذَكَرتَ اسمَ الله عَليهِ فَكُل ما أمسَكَ عَليكَ».
قُلتُ: وَإنْ قَتَلنَ؟ قَالَ: «وإنْ قتَلنَ، مَا لَم يشركهَا كَلْب لَيس منها».
قلتُ: فَإني أرمِي بالمعراض الصيد فَأصِيبُ؟.
فَقَالَ: «إذَا رَمَيْتَ بِالمَعرَاض فَخَرَقَ فَكُلْهُ، وَإنْ أصابه بِعرْضِهِ فَلا تأكُله».
الحديث الثالث:
وَحَدِيثُ الشعْبي عنْ عدي نَحْوَهُ، وفِيهِ: «إلا أنْ يأكل الكَلْبُ، فَإن أكَلَ فَلا تأكل، فَإني أخَافُ أن يَكُونَ إنَّمَا أمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وإن خَالَطَهَا كلاب مِنْ غيْرِهَا فَلا تَأكُلْ فَإنَّما سَمَّيتَ عَلى كَلْبِكَ وَلَم تسَمِّ عَلى غَيرِهِ».
وفيه: «إِذَا أرسَلتَ كَلْبَكَ المكَلَّبَ (الْمُعَلَمَ) فَاذْكرِ اسْمَ اللّه عَليهِ، فَإن أمْسَكَ عَلَيْكَ فأدركته حَيًّا فاذبحه، وَإن أدركته قدْ قُتِلَ وَلَم يَأكُل مِنْهُ فَكُله، فَإنً أخذَ الكَلْبِ ذَكَاتُهُ».
وفيه أيضاً: «إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فاذكر اسمَ الله عَلَيْهِ».
وفيه: «وإنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً أوْ يَوْمين- وفي رواية: اليومَيْنِ وَالثلاثَةَ فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلا أثَر سَهْمِكَ فَكُلْ إن شِئتَ. وَإنْ وَجَدْتَهُ غريقاً في المَاءِ فَلا تَأكُلْ، فَإنَّكَ لا تدري، الْمَاءُ قَتَلَهُ أوْ سَهمُكَ».
الغريب:
المعراض: بكسر الميم وسكون العين، وبعد الألف ضاد معجمة.
قال الشيخ: عصاً رأسها مَحْنية. والذي ذكره أهل اللغة: أنه سهم لا ريش عليه، وجمعه، معاريض.
فخرق: قال ابن فارس: الخاء والراء والقاف أصل، وهو يدل على نفاذ الشيء المرمي به، فالمراد- هنا- أصاب الرمية ونفذ فيها.
الشعبي: بفتح الشين وسكون العين، عامر بن شرا حيل المحدث الراوية المشهور.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على حل ما صاده الكلب ونحوه، كالفهد، أو الصقر، ونحوه كالبازي، إذا كان معلما وذكر اسم الله تعالى عند إرساله، ويستوي فيه أن يدرك صاحبه الصيد حياً أو ميتاً.
2- تحريم الصيد الذي اشترك فيه الكلب المعلَّم وغير المعلم، لأنه اجتمع فيه مبيح- وهو المعلم- وحاظر- وهو غير المعلم- فيترك من (باب ترك الأمور المشتبهة).
3- أنه لابد من التسمية عند إرسال السهم، والمراد بالسهم، السلاح الذي صنع للرمي من البنادق بأنواعها وأسمائها، وتسقط التسمية سهوا وجهلا وتقدم.
4- لكون التسمية مشترطة، فإنه لا يحل الصيد الذي اشترك في قتله المعلم وغيره، لأن غير المعلم لم يُذكَرُْ اسم اللّه عند إرساله.
5- لكون النية والتعليم مقصودين في الجارح، فإنه لا يحل الصيد الذي أكل منه، خشية أن يكون صاده لنفسه ولم يصده لصاحبه.
6- أن ما أدركته من صيد السلاح، أو الجارح حيا، فلابد من تذكيته، وإن كان ميتاً فرميه أو قتل الجارح إياه، هو ذكاته.
7- إذا جرحت الصيد فوقع في ماء، واشتبه عليك: هل مات من سهمك أو من الماء؟ فهو حرام، خشية أن يكون مات من الغرق وهذا إذا كان فيه اشتباه قَوِي.
أما إذا غلب على الظن أنه مات من السهم، لكون الماء قليلا، والجرح موحيا فهو حلال.
وهذا الحكم عام في كل ما اجتمع فيه مبيح وحاظر.
8- أن المعراض وغيره من السلاح، إن قتل الصيد بحده ونفوذه، فهو مباح، لأنه مما أنهر الدم. وإن قتله بصدمه وثقله، فلا يباح، لأنه من الميتة (الموقوذة)
الحديث الرابع:
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّه بنِ عُمَرَ عَنْ أبيهِ رَضي الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ اقْتَنَى كَلْباً- إلا كَلْبَ صَيْد أوْ مَاشِيَةٍ- فإنَّهُ يَنْقصُ مِنْ أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قيراطان».
قَالَ سالم: وَكَانَ أبو هريرة يَقُولُ: أوْ كَلْبَ حَرْثٍ وَكَانَ صَاحِبَ حرث.
المعنى الإجمالي:
الكلب من البهائم الخسيسة القذرة، ولهذا نهى الشرع الشريف الطاهر عن اقتنائه لما فه من المضار والمفاسد، من ابتعاد الملائكة الكرام البررة، عن المكان الذي هو فيه، ولما فيه من الإخافة والترويع والنجاسة والقذارة، ولما في اقتنائه من السفه.
ومن اقتناه نقص من أجره كل يوم شيء عظيم (قرب معناه بالقيراطين والله أعلم قدر ذلك) لأن هذا عصى الله باقتنائه وإصراره على ذلك.
فإذا دعت الحاجة إليه لبعض ما فيه من منافع ومصالح كحراسة الغنم التي يخشى عليها من الذئب والسارقين، ومثل ذلك اقتناؤه للحرث، وكذلك إذا قصد به الصيد- فلهذه المنافع يسوغ اقتناؤه وتزول اللائمة عن صاحبه.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم اقتناء الكلب، ونقص أجر صاحبه كل يوم قيرِاطين، وهما قدر عظيم، عند الله تعالى علمه ومبلغه.
2- ومنع اقتناؤه لما فيه من المفاسد والمضار الكثيرة من بُعْدِ الملائكة عن المكان الذي هو فيه، ولما فيه من الإخافة والترويع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، ولما فيه من النجاسة الغليظة التي لا يزيلها إلا تكرير الغسل وغسله بالتراب.
3- أنه يباح اقتناؤه لمصلحة، وذلك بأن يكون لحراسة غنم، أو حرث، أو لأجل صيد، فهذه منافع، تسوغ اقتناءه.
4- بهذا تعلم مبلغ ما لدى الغربيين من السفاهة وقلة البصيرة، إذ فتنوا باقتنائها لغير فائدة، ويطعمونها أحسن مأكول، ويعتنون بها بالتغسيل والتنظيف وغير ذلك، ويلابسونها، ويقبلونها، فهل بعد هذا من سفه؟.
والعجب أن مثل هذه العادات والأعمال القبيحة سرت إلى المستغربين منا، من الإمًعات المقلدين، الذين عبدوا الغربيات، وتدينوا بأعمالهم، وعشقوا كل سفالة عندهم. فإنا للَه وإنا إليه راجعون.
الحديث الخامس:
عَنْ رَافِعِ بن خَدِيج قَالَ: كُنَّا معَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُليفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأصَاَبَ النَّاسَ جوعٌ فأصابوا إبلا وغنما، وَكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم في أخريَاتَ القوم،، فَعَجِلوا وَذبَحُوا وَنصَبُوا القدورَ.
فَأمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِالقُدُورِ فأكفئت-، ثُمَّ قَسمَ، فَعَدَلَ عشرة مِنَ الغنم بِبَعِير، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِير، فطلبوه فَأعْيَاهمْ.
وَكَانَ في القوم، خَيل يَسِيرَة، فَأهوَى رَجُل مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَه الله.
فَقَالَ: «إنَّ لِهذِهِ البَهَائِم أوَابِدَ كَأوَابِدِ الوَحْش، فَمَا نَدَّ عليكم مِنْهَا فَاصنعُوا بهِ هكَذَا».
قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله، إنَّا لا قُو العَدوَّ غَداً، وَليس مَعَنَا مُدً ى، أفنذبح بالقصب؟.
قَالَ: «مَا أنهر الدمَ وذكر اسْمُ اللّه عَلَيْهِ فكُلُوهُ، ليسَ السن وَالظفر.
وسأحدثكم عَنْ ذَلِكَ، أما السنُ فعظم، وَأما الظفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ».
الغريب:
الحُليفة: بضم الحاء المهملة وفتح اللام، بعدها ياء، ثم فاء مفتوحة، ثم تاء تصغير (حلفة) نبت معروف، سميت به، لأنها من منابته.
تِهَامة: بكسر التاء المثناة، وهي ما تصوب من جبال الحجاز إلى البحر.
نَد: بفتح النون، وتشديد الدال، بمعنى: هرب على وجهه شارداً.
فأعياهم: بفتح الهمزة، وسكون العين، بعدها ياء، بمعنى: أعجزهم.
أوابد: بفتح الهمزة، بعدها واو، ثم ألف، بعدها باء موحدة مكسورة، ثم دال. جمع (آبدة) بالمد وكسر الباء، وهي: الغريبة المتوحشة. والمراد أن لها توحشا ونفوراً.
مدَى الحبشة: بضم الميم جمع (مدية) مثلث الميم، وهى: السكين.
والأصل: أن هذه المادة تدل على الامتداد والغاية، فلعلها سميت بذلك لأن المذبوح بها ينتهي مداه: وهو أجله.
أنهر الدم: بمعنى فتح الدم وأساله.
ليس السن والظفر: السن والظفر، منصوبان بالاستثناء.
ما يستفاد من الحديث:
نأتي بفوائد هذا الحديث، مرتبة حسب ما جاء ت فيه:
1- إن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم الجميلة أن يكون في آخر الجيش، رفقا بالضعيف والمنقطع.
فكذا ينبغي للقواد والأمراء، وهكذا ينبغي ملاحظة الضعفاء العاجزين في كل الأحوال، في إمامة الصلاة وغيرها.
2- تأديب الإمام لرعيته وجنده فقد أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العجلة والتصرف، قبل أخذ إذنه، فكان جزاؤهم حرمانهم مما أرادوا.
3- اختلف في السبب الذي أمر من أجله صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور وذكر القاضي عياض أنه ربما كان سبب ذلك أنهم انتهبوها. ونقل ما أخرجه أبو داود عن رجل من الأنصار قال: أصابت الناس حاجة شديدة وجهد، فأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدرونا لتغلى بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة.
4- مشروعية التعزيز بالمال إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك وهو رواية عن الإمام أحمد قوية، أخذ بها كثير من أصحابه. منهم شيخ الإسلام (ابن تيميه) وتلميذه (ابن القيم).
والقصد من التعزير، الردع، ولعل التعزير بأخذه يكون لبعض الناس أنكى وأردع من غيره.
أما المشهور من المذهب، فإنه لا يعزر بالمال وهو ضعيف، لأنه مخالف لكثير من الأحاديث التي لم يثبت نسخها، لتحريقه متاع الغال وتغريم السارق من غير حرز ضعف ما سرق، وتغريم جانٍ على اللقطة قيمتها مرتين، وغير ذلك.
5- العدل، لاسيما في موطن جهاد الأعداء والكفار، لأنه من أسباب النصر والظفر بالأعداء.
والنبي صلى الله عليه وسلم قسم بينهم، فجعل مقام البعير عشرةً من الغنم.
وهذا تقدير قيمة، فليس فيه دليل على أن البعير يجزئ عن عشرة من الغنم في الأضحية، لأن ذلك تقدير مرجعه الشارع، وهذا مرجعه القيمة.
6- أن من هرب ولم يمكن إدراكه من الإبل، أو البقر، أو الغنم أو من الحيوانات المستأنسة فليحبس أو ليقتل برميه، فإن مات، فالرمي ذكاته، لأنه صار حكمه حكم الوحش النافز.
7- جواز التذكية بكل ما أنهر الدم وأساله، من حديد، أو حجر، أو قصب أو غيرها.
8- اشتراطْ التسمية، وتقدم أنها تسقط سهواً وجهلا.
9- أنه لا يجوز الذبح بالسن والظفر.
والحكمة في ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أن السن عظم، وأما الظفر فلمخالفة الكفار، لم يجز الذبح به.
10- من هذا التعليل يفهم أنه لا يجوز التذكية بجميع العظام وهو الصحيح، وهو رواية عن الإمام أحمد.
أما المشهور من المذاهب فيختص بالسن فقط.
ويؤخذ منه عدم جواز مشابهة الكفار وتقليدهم، ومتابعتهم بشيء من أعمالهم.
وأما العلوم والصناعات، فلا تدخل هنا، لأنه حق مشاع مشترك بين الناس، فالأفضل أن لا يسبقونا إليها.